
شتان بين نار ونار.. أو كما يقولون ليس كل ما هو أحمر يكون ناراً.. أو يحسبه البردان ناراً ويطلع صبغة كنافة.
كل شيء لا يذكرك بواقعك فهو ثانوي.. وكل حدث لا يدق رأسك لتتألم ومن ثم تفيق فهو مُسكن.. ووهمٌ مقيت.. وبالتالي فإن أي حدث لا يمت إلى الواقع بصلة فلن يمت إليه (ببصلة)..
ولن يكون أكثر من لمّة غابرة تُنسى مثل كل القرابين والأضاحي التي ذبحها الوالد احتفالاًً بمولد ابنه الجديد.. بعد أن كبر ألابن وزادت همومه ومطالبه.. فالابن الآن لا يذكر سوى الواقع والحقائق والمطالب... ولن يهمه حتى لو سجلت تلك الأضاحي والحلويات والولائم الجماعية في موسوعة جينس.. فمطالب الابن التي تكبر معه، جديرة بأن تمحوا من الذاكرة كل الحلوى التي وزعت على شرف قدومه.. ولو أن الأب وزعّ الحلوى لكي ينسي ابنه حقوقه عليه ويرشيه بها، فستكون تلك نكتة وخديعة أكبر من جبل الكنافة الأخير.
سرتّ في أول انتفاضة الأقصى قصة مفادها أن إحدى المدن الفلسطينية بصدد بناء اكبر مقلاع للحجارة في العالم.. لتكون هذه المقلاع رمزاً من رموز التراث الفلسطيني المقاوم، مثلها مثل سيف النصر ببغداد (القديمة)، أو مثل تمثال الحرية في نيويورك... كم سيكون هذا العمل رائعاً لو حصل فعلاً.. بل ربما كان الواحد منا سيأخذ مع تلك المقلاع الحجرية الضخمة صورة تذكارية "يتفشخر" ويكابر بها أمام أهل نيويورك أنفسهم، باعتبار أن مقلاعنا حقيقية، وتمثل رمزاً حياً لقصص واقعية من الكفاح.. بينما تمثالهم المستورد (صنم الحرية) رمزاً جميلاً ولكنه ليس واقعياً ولا يعكس الحرية الغبية التي تضربنا بها أمريكا على رؤوسنا لكي نصدق صنمهم.. فكان ضربهم أكثرة حُمرة وخشونة ودموية من الكلام الأبيض الناعم، ومن تلك الجميلة التي تحمل الشعلة في التمثال.. فهو لا يصلح أن يكون أكثر من ولاعة لسيجارة طيار يخترق فضائه.
وتلك المقلاع التي تواردت لو تم لها الانجاز فلن تقل قيمتها عن قيمة برج القاهرة والذي بني من أعظم رشوة في العالم كان الرئيس الأمريكي روزفلت يحاول من خلالها شراء ذمة الطاهر جمال عبد الناصر بخمسة ملايين دولار.. فأخذها عبد الناصر وبنى بها برجاً شاهداً على نظافة يده.. وعالياً فوق قذارة يد أصحاب تمثال الحرية!!. ولذلك بقي برج القاهرة يُسمى إلى الآن بخازوق روزفلت.. وفعلاً كان خازوقاً يحتدى بصلابته.
وفي النهاية اكتشفنا ان فكرة المقلاع لم تكن خطة بناءها سوى وهمّ. ولكن وإلى الآن أشعر أنها ربما تكون بنية في إحدى مدن فلسطين.. ربما في غزة؟ ربما تكون هناك. وربما سميت "مقلاع الحرية".. وهل ستدخل موسوعة جينس للأرقام القياسية؟ - أكيد، لأنه وإلى الآن لم يبدع أي شعبٌ مُحتل في العالم فكرة بمثل بساطة وقوة المقلاع الذي أستخدمه الطفل الفلسطيني في انتفاضاته.. وطبعاً لن يخطر في بال أي فنان غير فلسطيني أن يبني مقلاعاً حجرياً يبلغ ارتفاعه ما يقارب العشرون متراً.. مقلاعاً رمزياً فقط، لا يضرب ولكن دائماً يُذكر. فهذا حدث سيكون جديراً بأن تشكره الذاكرة ويُسر به الوعي المتتالي.
أما الذين صاموا وصاموا ثم أفطروا على كنافة في مدينة نابلس (جبل النار)، فلهم أن تشكرهم أمعائهم الدقيقة والغليظة.. بعيداً بعيداً عن الواقع وعن الذاكرة، المواطنين جاؤوا لاقتناص الفرحة القليلة، هذا حقهم المسلوب فلا أحد يلوم، ولكن الحدث ذاته - سدر كنافة طوله 74 متراً- كان أصغر من طبق زعتر بقيمته المعنوية... رئيس وزراء، ألاف العساكر، كميرات، فضائيات، محافظين، وكل من جاء ليأخذ صورة مع سيادتهم جاء وجلس في سدر القعدة: أنا هنا متضامن في الأكل. كل هذه الهلمه كانت تقول: أيها الناس، كل شيء على ما يرام، وكل شيء أُنجز، وغزة بخير والأسرى ينظرون إلينا عبر شاشة التلفاز ويبعثون إليكم بسلام، فالأسرى لن يسيل لعابهم لأن حلوقهم نشفت، وأيضاً لا يتمنوا بان يأكلوا ويحتفلوا معنا، لأنهم دائماً يعطون ولا يأخذون، هم عودونا عليهم هكذا، فلا ذنب لنا.. فهيا لنتحلى أما الكميرات!!.
- يقول الواقف بعيداً: يا للهول!! هذه أول مرة يكون مجرد (سدر الكنافة) هو الحدث وليس - نحن-.
هناك الآلاف من الأحداث في فلسطين تستحق أن نوقظ جينس من التراب ونحضره ليكتب عنها ويصفع بها وجه العالم.. وتلك الأحداث أكثر تعبيراً عن فلسطين ووقعها.. أكثر تعبيراً من الجبنة والشعيرية والبندق والسبغة الحمراء:
- أكثر عدد من المساجين في العالم يقبعون داخل سجن واحد وبين فكيّ الجدار العنصري (3.5 مليون فلسطيني) في الضفة الغربية.
- أكبر زنزانة في التاريخ الإنساني ضمتها غزة (1.5 مليون فلسطيني) محاصرون.
- أكبر عدد أسرى بالنسبة لشعب (11 ألف أسير)
- أصغر طفلة تقتل عمرها 10 أيام.
- أكثر عدد من الرصاصات أُفرغت في جسد فتاة عمرها 12 عاماً (ثلاثيون رصاصة).
- قلع أكثر من (13.000.000) ثلاثة عشر مليون شجرة.
- أعلى نسبة فقر في العالم جراء عوامل خارجية(احتلال) 80% فقير.
- أكثر عدد حواجز تفتيش في العالم، (5000) حاجزاً متنقلاً و763 حاجزاً ثابتاً.
والأهم ان الشعب الفلسطيني أكثر شعب في العالم مورست ضده محاولات لتغييب الوعي.. ومحاولات مسبوغة بالأحمر لينسوه الأحمر الحقيقي الذي ينزف منه.. ولكن كل تلك الولائم التغيبية وإن أكلها الشعب، فهي حتماً مآلها إلى... (دورة المياه). مثل ملهاة الطبخ تلك.
وصحتين لجوف الأرض.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق